فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 32):

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}
قلت: النفر بالفتح: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع، ولا واحد لهم من لفظه، وهو للرجال دون النساء. قاله في المصباح. و{من الجن} نعت للنفر، وكذا {يستمعون}.
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن} أي: أملناهم إليك، وقبلنا بهم نحوك، وهم جن نصيبين، أو جن نينوى، قال في القاموس: نِينوى بكسر أوله، موضع بالكوفة، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام. اهـ. {يستمعون القرآن} منه عليه السلام {فلما حضروه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أي: كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته، {وَلَّوا إِلى قومهم منذرين} مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.
رُوي: أن الجنَّ كانت تسترق السمع، فلما حُرست السماء، ورُموا بالشُهب، قالوا: ماهذا إلا لأمر حديث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، لتعرفوا ما هذا، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى، منهم: زوبعة فمضوا نحو تهامة، ثم انتهوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر، فستمعوا القرآن، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين ذهب يدعوهم إلى الله، فكذّبوه، وردُّوا عليه، وأغروا به سفاءهم، فمضى على وجهه، حتى وصل إلى نخل، فصلّى بها الغداة، فوافاه نفر الجن يصلي، فاستمعوا لقراءته، ولم يشعُر بهم، فأخبره الله تعالى باستماعهم.
وقيل: أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن، ويقرأ عليهم، فصرف الله إليه نفراً منهم، وجمعهم له، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني أُمرت أن أقرأ على الجن، فمَن يتبعني؟» قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، في شعب الجحون، فخطّ خطّاً، فقال: «لا تخرج عنه حتى أعود إليك»، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم تتقطع كقطع الحساب، ذاهبين، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فقال: «أنمتَ؟» فقلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هل رأيت شيئاً؟» قلت: نعم، رجالاً سوداً، في ثياب بيض، قال: «أولئك جن نصيبين» وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأ عليهم: {اقرأ باسم ربك}.
فلمَّا رجعوا إلى قومهم {قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى} قيل: قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية، وعن ابن عباس: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد. حال كون الكتاب {مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق} من العقائد الصحيحة، أو إلى الله، {وإِلى صراطٍ مستقيم} يُوصل إلى الله، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
{يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله} وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {وآمِنوا به} أي: بالرسول أو القرآن، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم؛ لتلازمهما، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته، ترغيباً في الإجابة، ثم أكدوه بقولهم: {يغفر لكم من ذنوبكم} أي: بعض ذنوبكم، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان، وقيل: تغفر. {ويُجركمْ من عذابٍ أليم} موجع.
واختلف في مؤمني الجن، هل يُثابون على الطاعون، ويدخلون الجنة، أو يُجارون من النار فقط؟ قال الفخر: والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. اهـ. ويؤده قوله تعالى: {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} كما تقدّم في الأنعام.
{ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض} أي: لا ينجي منه مهرب، وإظهار {داعي الله} من غير اكتفاء بضميره، للمبالغة في الإيجاب، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته، وإدخال الروعة. وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض؛ لتوسيع الدائرة، أي: فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها. {وليس له من دونه أولياءُ} ينصرونه من عذاب الله، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع الأولياء مبالغة، إذا كان لا ينفعه أولياء، فأولى واحد. {أولئك} الموصوفون بعدم إجابة داعي الله {في ضلال مبين} أي: ظاهر: بحيث لا تخفى ضلالته على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه، وجمع الإشارة باعتبار معنى من، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها.
الإشارة: قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: أنصتوا، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير، كالصمت، والوقار، والهيبة، والخضوع، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه: «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «ليبلغ الشاهد الغائب» فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر، والاستجابة أقسام، قال القشيري: فمستجيبٌ بنفسه، ومستجيبٌ بقلبه، ومستجيبٌ بروحه، ومستجيبٌ بسرِّه، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به. اهـ.
قلت: المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان، وقول: هجر فيما يُخاطب به، أي: كان يُخاطب بملاحظة الإحسان، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (33- 34):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}
قلت: {ولم يَعْيَ} حال من فاعل خلق، يُقال: عَي، كرضَى، وَعِيَ بالإدغام، وهو أكثر. قاله في الصحاح. وفي القاموس: عَيَّ بالأمر وعَيِيَ كرَضِيَى، وتَعايا واسْتَعيا وتَعَيَّا: لم يهتدِ لوجه مُراده، أو عَجَزَ عنه ولم يُطِقْ إحْكَامه. اهـ. و{بقادر} خبر أن، ودخلت الباء لاشتمال النفي الذي في صدر الآية على أنّ وما في حيّزها، قال الزجاج: لو قلت: ما ظنت أنَّ زيداً بقائم، جاز.
يقول الحق جلّ جلاله: {أَوَ لَمْ يَرَوا} أي: ألم يتكّفروا ولم يعلموا علماً جازماً {أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض} ابتداء من غير مثال يحتويه، ولا قانون يحتذيه، {و} الحال أنه {لم يَعْيَ بخلقهن} أي: لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً، ولم يعجز عنه، أليس مَن فعل ذلك {بقادرٍ على أن يحيي الموتى بلى} جواب النفي، أي: بلى هو قادر على ذلك، {إِنه على كل شيء قديرٌ} تقرير للقدرة على وجه عام، ليكون كالبرهان على المقصود.
ثم ذكر عقاب مَن أنكر البعث المبرهن عليه، فقال: {و} اذكر {يوم يُعرض الذين كفروا على النار} فيقال لهم: {أليس هذا بالحق} فالإشارة إلى ما يُشاهدونه من فظيع العذاب، وفيه تهكُّم بهم، وتوبيخ لهم، على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، ونفيه بقوله: {وما نحن بمعذبين}، {قالوا} في جواب الملائكة: {بلى وربَّنا} إنه لحق، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك؟ {قال} تعالى لهم: {فذُوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون} بها في الدنيا، ومعنى الأمر: الإهانة بهم والتوبيخ لهم، نعوذ بالله من موارد الهوان.
الإشارة: تربية اليقين تطلب في أمرين، حتى يكونا كرأي العين: وجود الحق أو شهوده، وإيتان الساعة وقربها، حتى تكون نُصب العين، وتقدّم حديث حارثة شاهداً على إيمانه، حيث قال: «وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون...» الحديث.

.تفسير الآية رقم (35):

{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}
قلت: {لهم} متعلق بتستعجل، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف، لا يليق بإعجاز التنزيل، خلافاً لوقف الهبطي، {وبلاغ} خبر عن مضمر، أي: هذا بلاغ.
يقول الحق جلّ جلاله: {فاصبر} يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة {كما صبر أُولوا العزم} أي: الثبات والحزم {من الرسل} فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم، و{من} للتبعيض، واختلف في تعيينهم، فقيل: هم المذكورون في الأحزاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيمَ} [الأحزاب: 7] وهم أهل الشرائع، الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمُّل مشاقها، وسياسة مَن تمسّك بها، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل: هم الصابرون على بلاء الله تعالى، كنوح صَبَر على إذاية قومه، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وذَبْحِِ ولده، ومفارقة وطنه، وترك ولده ببلد خالية من العمران، ويعقوب على فقد ولده، وذهَاب بصره، ويوسف على الجُب والسجن، وأيوب على الضُر، وموسى قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62] وعلى مكابدة التيه مع قومه، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
وقيل: هم اثنا عشر نبياً، أُرسلوا إلى بني إسرائيل، فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء: إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل، فشقَّ عليهم، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل، فسلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم مَن نُشر بالمناشير، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم مَن رُفع على الخشب، ومنهم مَن أُحرق بالنار. نسأل الله العافية، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء.
وقيل: {من} للتبيين، كقولك: اشتريت ثياباً من الخز، فكلهم أولو العزم، وقيل: إلا يونس، لقوله: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وآدم لقوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115].
ثم قال تعالى: {ولا تستعجلْ لهم} أي: لكفار مكة نزول العذاب، فإنه نازل بهم، {كأنهم يوم يَرَوْن ما يُوعدون} من العذاب {لم يلبثوا} في الدنيا {إِلا ساعةً} يسيرة {من نهارٍ} لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. وقال الثعالبي: وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فاتخذه صاحباً، ودعْ الناس جانباً، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله، والفرار مما سواه، فانظره.
هذا {بلاغٌ} أي: هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول، أو مني إليك، ومنك إلى العالمين.
{فهلْ يُهلك إِلا القوم الفاسقون} أي: ما يُهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ، أو عن هذه المواعظ، أو عن الطاعة، أو: فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة، والأدلة القاطعة إلا مَن هلك عن بينة، أو: فلا يهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلا الهالكون، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء: {إِنَّ في هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدينَ} [الأنبياء: 106] الآية.
فائدة: قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، فليكتب هاتين الآيتين الكريمتين في صحيفة، ثم تغسل وجهها منها، وتُسقى منها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، العظيم الحليم، سبحان الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، {كأنهم يوم يرون ما يُوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} صدق الله العظيم. اهـ.
الإشارة: أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم، فهم جلاليون الظاهر، جماليون الباطن، قد أسّسوا منار الطريق، وأظهروا معالم التحقيق، قاسوا شدائد المجاهدة، وأفضوا إلى دوام المشاهدة، عالجوا سياسة الخلق، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير، فهم خلفاء الرسل في تجديد الشرائع، وإحياء الدين، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. فيُقال لكل وليّ من أولي العزم: فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك.
قال القشيري: والصبرُ هو الوقوفُ لحكم الله تعالى، والثبات من غير بَثّ الاستكراه. اهـ. أي: من غير إظهار الشكوى والتكرُّه. قلت: وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات، وتوالي الأزمات، وصيانة الوجه عن ذلك المخلوقات، ولله در القائل:
اِرض بِأدْنَى الْعَيْشِ وَاشْكر عَلَيْهِ ** شُكْرَ مَن الْقلُّ كَثيرٌ لَدَيْهِ

وجَانِب الْحرص الَّذِي لَمْ يَزَل ** يَحُطُّ قَدْرَ الْمتَراقِي إِلَيهِ

وحَامِ عَنْ عِرْضِكَ وَاسْتَبقهِ ** كَمَا يُحامي اللَّيْثُ عَنْ لُبْدَتَيْهِ

وَاصْبِرْ علَى ما نَابَ مِن نوبٍ ** صَبْرَ أُولِي الْعَزْمِ وَاغْمِضْ عَلَيْهِ

ولبدتي الأسد: جانبا كتفيْه.
ويُقال لأُولي العزم، حين يُؤذون من جهة الخلق: {ولا تستعجل لهم...} الآية. وقوله تعالى: {كأنهم يوم يرون...} الآية، قال القشيري: مُدةُ الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى مُنتهى آجالهم، بالإضافة إلى الأزلية، كلحظةٍ، بل هي أقلُّ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء، وأيّ خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ.. خيراً كان أو شرّاً؟. اهـ.
قال الورتجبي، ثم بيَّن أن عند معاينة سطوات القهريات، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم بقوله: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} الخارجون بالدعاوى الباطلة. اهـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.